جذور الأزمة (2)

كتب : أ/ محمد عثمان الأمين
الحرب الدائرة الآن تمثل نهاية مأساوية لقصة عشنا فصولها المختلفة عبر الاجيال، وقد بدأت القصة حينما نال السودان استقلاله وتحرر شعبه من الحكم الثنائي (الإنجليزي المصري).
ففي صبيحة يوم الاستقلال اكتشفت النخبة السياسية (فجأة) أن الدولة السودانية التي ورثتها من الاستعمار مثقلة بالتباين الحاد بين مكوناتها الاجتماعية التي تقوم علي الاختلافات الاثنية والقبلية والاختلافات الثقافية وأن ممسكات الوحدة الوطنية بين تلك المكونات ضعيفة ولا تقوى على الصمود وأن العقل السياسي النخبوي لم يكن مؤهلًا لإنتاج مشروع وطني جامع يستطيع أن يجمع حوله كل تلك المكونات الاجتماعية المتباينة والمختلفة في كثير من الأولويات والأفكار والرؤى، الأمر الذي دفع ببروز الخلافات السياسية قبل ميلاد دولة السودان الحديثة .
لذلك انفجرت مشكلة الجنوب الأولى حينما طالب النواب الجنوبيين بالفدرالية، وتزامن معها تمرد كتيبة توريت في جنوب السودان وولدت الدولة وهي تحمل عوامل فشلها بداخلها.
وبالرغم من أن نخبة من المثقفين السودانيين كانت متفائلة، بأن التنوع يمكن أن يكون مصدرًا للثراء وأنه يمكن أن يمثل رابطًا وجدانيًا بين شعوب السودان وقامت على إثر ذلك دعوات الوحدة في التنوع من مدرسة الغابة والصحراء والسودانوية ومدرسة اباداماك التي استدعت التاريخ وغيرها إلا أن المؤثرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت هي التي تحدد مسار توجه الدولة الوليدة .
لقد انتبه بعض المفكرين والسياسيين مبكرًا لتلك المعضلة وتم طرح عدة افكار للحلول تقوم أساسًا على مبدأ التعايش السلمي والقضاء على التهميش بعد توفر الشروط الآتية :-
١-إقامة نظام فيدالي لحكم السودان.
٢- التوزيع العادل للثروة والسلطة.
٣- التنمية المتوازنة لاقاليم السودان المختلفة.
٤- عدم مركزية الثقافة العربية الإسلامية واتاحة الفرص للثقافات الأخرى للتعبير عن نفسها عبر وسائل الإعلام وعبر الاروقة الدبلوماسية.
ولكن اصطدمت تلك الأفكار والحلول بالصراعات السياسية والاختلافات الجوهرية في تباين زوايا النظر لمشكلة السودان.
كانت اتجاهات تشخيص الأزمة السودانية بعد الاستقلال لدى الأحزاب السودانية الحديثة تقوم على نظرة قاصرة لأنها كانت تتجاوز النظر إلى جذور الأزمة وإلى خصوصية المشكل السوداني وكانت تتجه لاستيراد افكار من الخارج لتطبيقها في واقع مختلف ومعقد لذلك لم تنجح الأفكار اليسارية في طرح مشروع وطني جامع وأيضًا فشل التيار الإسلامي في طرح حلول عملية وواقعية .
وبالرغم من أن بعض الأحزاب القومية مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان طرحت افكارًا ورؤى مقاربة إلا أنها سقطت في طرح البديل حينما طرحت الهوية الأفريقانية بديلًا للهوية العروبية.
مما سبق يتضح أن الحرب لها اسباب عميقة ومتجذرة وفشلت النخبة السياسية السودانية في ايجاد علاج لها لأن الاختلافات والتباين الحاد كان أكبر من إمكانيات تلك النخبة وأكثر تعقيدًا من كل الأفكار والاطروحات التي تم تداولها ومن كل تجارب الحكم التي تمت منذ الاستقلال وحتى الآن.