عزيف الجن ؛ بين التيه الروحي وطمأنينة الذكر

كتب : د/ بهاءالدين ماهر
في عمق التاريخ البشري ، حيث تتوارى المعاني وتبهت الأنوار الروحية ، ينبعث صوت خافت لكنه عميق الوطأة ، كأنَّه همس من عوالم غيبية يتسلل إلى النفوس كظلٍّ ثقيل موحش ، يُشعل الرهبة ويزيد القلوب اضطراباً ، إنَّه [عزيف الجن] ، ذاك الصوت الغامض الذي يرتبط بفراغ الروح حين يغيب نور الذكر من القلوب ، فتسير الأمم في دروب مظلمة ، بلا هدى ، وقد تجردت من السكينة والطمأنينة ، وكأنها تائهة في بحر عميق من الفوضى والضياع.
وحينما تغيب جذوة الذكر ، تفتقر الأرواح إلى ما يربطها بمصدر الطمأنينة ، فترنح الأمم تحت وطأة الفراغ ، فاقدة لبوصلة النور التي ترشدها في الدروب الحالكة.
وكثيراً ما يُوصف [ العزيف ] بأنَّه نداء غريب ، كصدى متسلل من عوالم خفية ، يقطع السكون ويترك في الروح أثراً عميقاً وحزناً غامضاً.
هذا العزيف لا يسمعه المرء بأذنه المادية فقط ، بل يستشعره كألم نفسي ، واهتزاز خفي يعكس عمقاً روحياً ينطوي على فقدان الطمأنينة وغياب الاستقرار الداخلي.
إنَّه ليس مجرد صوت يُسمع ، بل تجربة تملأ الروح بشعور الافتقاد والحنين إلى سلام بعيد المنال ؛ إنَّه لا يُرى كصوت ، بل كحالة يعيشها من لا يجد السكينة ، من يبتعد عن الذكر ويهجر الاتصال الروحي باللّٰه سبحانه وتعالى.
والذكر هو الرحيق الروحي الذي يغذي القلوب ، يملؤها بأنوار الرحمة ويشحنها بالطاقة الروحية التي تبث السكينة في النفس ؛ فالذكر ليس مجرد كلمات تتردد على اللسان ، بل هو حالة من الحضور الخالص للّٰه عزَّ وجلَّ، والتوكل عليه ، والثقة المطلقة في تدبيره ورحمته.
وحينما تُخلى القلوب من الذكر ، تصبح عرضة للتيه ، تتوه في سراديب المجهول ، وتخشى المجهول.
فيبرز العزيف كعلامة لهذا التيه والضياع ، إنَّه تجسيد لهذا الفراغ الداخلي ، وهنا تتجلى الأهمية الحقيقية للذكر.
ليس الذكر مجرد عبادة ، بل هو ضمان للسكينة والرضا ، القلوب التي تعلَّقت باللّٰه تعالى تجد ملاذها في واحة أمان وسكينة ، لا تعرف القلق في مواجهة مصاعب الحياة ، ولا ينال من صفائها أي اضطراب.
هي قلوب تعيش في طمأنينة تغمرها الثقة ، فلا تزعزعها العواصف ، ولا تشوبها المخاوف ، إذ ارتبطت بالذي بيده مقادير الأمور ، ولا عزيفاً يشوش عليها.
وحينما نتأمل في مسيرة التاريخ عبر الأمم والمجتمعات ، نجد أنَّ تلك المجتمعات التي ازدهرت روحياً وازدهرت أخلاقياً هي التي اتخذت الذكر والتواصل الروحي مع اللّٰه نهجاً لها.
هذه الأمم استنارت قلوبها بذكر اللّٰه ، استقامت شؤونها وانبثقت فيها أنوار الهداية والسكينة ؛ كان الذكر هو السكينة التي تملأ القلوب ، والبوصلة التي تهدي الأفراد للسير في حياتهم بطمأنينة وسلام ، فتراهم يمضون بلا قلق من مجهول الغد ، مطمئنين لما هو قادم ، مستمدين القوة من صلتهم برب العالمين.
بخلاف ذلك ، تبدو المجتمعات التي هجرت ذكر اللّٰه وانصرفت عنه كأمم مضطربة ، تتغلغل فيها مشاعر القلق وتسيطر عليها المخاوف، فلا تجد القلوب فيها طمأنينة ولا سكينة.
وفي غياب الذكر تتكاثر الفراغات الروحية التي تملأها أصوات العزيف ، ليغدو هذا العزيف صدىً عميقاً لخواء داخلي ، يعكس حالة الضياع التي يعاني منها الفرد حين يبتعد عن اللّٰه ويغفل عن جوهر روحه ، فتغيب عنه السكينة ، ويصبح قلبه تائهاً في الظلمات.
وتم وصف [ عزيف الجن ] بأنَّه رمز للتيه والضياع ، حيث يعبر عن حالة النفس التي تعجز عن الاستقرار ، وتظل تبحث عن الأمان في أمكنة خاطئة ، فتصطدم بأوهامها وتغرق في بحر من الارتباك والقلق ، ويستشعر صاحبها اغتراباً عميقاً ، حتى وإن كان محاطاً بالناس ، تظل روحه تائهة في عالم لا تنتمي إليه ، تبحث عن راحة لا تجدها ، فتظل أسرى بين حواجز الزمان والمكان ، مشدودة إلى وهم الأمان الذي لا يتحقق.
وتلك الأمم التي خلت من الذاكرين للّٰه تتحول إلى مجتمعات مضطربة ، يعم فيها الضجيج والشتات الروحي.
وفي عالمنا المعاصر ، حيث يعم الازدحام ويملأ الضجيج الأرجاء ، يبقى الذكر أسمى ما يحتاجه الفرد.
إنَّه الملاذ الذي يلجأ إليه قلبه ليتنفس من ثقل الحياة ، ويسترجع في خلوته تلك الطاقة الروحية التي توازن كيانه ؛ في الذكر يجد المرء سكينته ، ويعود إلى ذاته بعيداً عن ضوضاء العالم ، ليعيش لحظات من الصفاء النفسي والتواصل مع الروح.
فالذكر يفيض على الروح بنسمات من السكينة العميقة ، ينساب إلى أعماقها ليغمرها بسلام يبدد ما علق بها من صخب الحياة ، ويغسل القلب من همومه ، ليعيد إليه صفاءه ورقته ، كما لو أنَّه يُزيل عن كاهله أثقال الزمان.
وعندما نتأمل بعمق في تأثير الذكر على حياة الفرد ، نجد أنَّه يعدّ بوابة لتحرره من قيود الخوف ، ومنحاً له قوة فائقة لمواجهة تحديات الحياة بثقة ورضا.
الذاكرون اللّٰه تعالى أرواحهم واسعة تتسع لقيم نبيلة كالصبر ، والتوكل ، والرضا.
فتجدهم لا يتأثرون بالألم أو الهم ، إذ أنَّ اتصالهم الدائم مع اللّٰه تعالى يجدد فيهم روح الاطمئنان والسلام.
إنهم في حصن لا يتأثر برياح الخوف أو التشتت ، لأنَّ ذكرهم يعزز فيهم شعوراً عميقاً بالثبات ، يظلون ضد كل ما يزعزع راحتهم.
لقد ارتبط مفهوم العزيف في الحكايات الشعبية بأساطير متعددة ، فقد كان رمزاً للأصوات المخيفة التي يعتقد أنها تأتي من عالم الجن ، ذلك العالم الخفي الذي يمثل للبشر حالة من المجهول.
لكن في عمق تلك الحكايات ، نجد أن العزيف يرتبط بالخوف من المجهول ، وهو يمثل حالة من الفزع الداخلي ، التي لا تنشأ إلا حينما تكون النفس في حالة من الفراغ الروحي.
فالموروث الشعبي مليء بالحكايات عن عزيف الجن وأصواته التي يُقال إنها تعلو ليلاً في الأماكن المهجورة ، ليكون بذلك رمزاً لأماكن تفتقر إلى الحياة ، تماماً كما تفتقر القلوب إلى الحياة حين تخلو من الذكر.
إنها أصوات تنبع من الظلام لتبعث في النفس خوفاً عميقاً ، ولتذكر البشر بمدى حاجتهم إلى النور ، إلى الطمأنينة التي لا يجدها إلا في الذكر.
وفي واقعنا اليوم ، أصبح الذاكرون أشبه بحراس للنور ، هم الذين يبثون في محيطهم هالة من الطمأنينة ، يحملون السلام معهم حيثما ذهبوا. فالذاكر هو من يتصل بمصدر الأمان ، لذلك هو أقل الناس تأثراً بالعزيف وبما يحيط به من اضطرابات.
يتجلى في سلوكه قوة نفسية وقدرة على مواجهة المواقف الصعبة بروح راضية.
إنَّ الذاكر لا يخاف من المستقبل ، لأنَّ قلبه في واحة من الأمان ، يغمره حب اللّٰه ويحصنه ذكره ، فيعيش في ظل من السكينة التي لا تمسها أصوات العزيف ولا يزعزعها خوف المجهول.
وفي هذا الصدد قد يكون لكل منا واجبٌ في أن يستعيد معنى الذكر في حياته ، أن يبحث عن تلك اللحظات التي يملأ فيها قلبه بالسلام ، ففي خضم مشاغل الحياة ، تبقى هذه اللحظات هي التي تمنح للإنسان المعنى ، هي التي تجعله يتجاوز الضغوط ويخرج من متاهات العزيف والأصوات الخافتة التي ترهبه.
إنَّ عزيف الجن ليس مجرد أسطورة ، بل هو رمز لحالة الخواء التي يعيشها الفرد حينما يتخلى عن مصدر الحياة الحقيقية – ذكر اللّٰه.
إنَّه رمز للتيه الذي يسري في النفس حين تغيب عن ذكره وتفقد صلتها به ؛ ويوصينا سيدي الإمام فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني رضي اللّٰه عنه وأرضاه في نظمه الفريد قائلاً :
وَلَا تَكُن كَعَزِيفِ الْجِنِّ فِي أُمَمٍ
خَلَتْ مِنَ الذَّاكرِينَ اللَّهَ وَاحْتَكِم