أ/ عثمان العاقب يكتب : الوطن القادم

القوس اونلاين

في خضم الانتصارات الظاهرة والانسحابات المتسارعة، والتي تؤكد أن الحرب في خواتيمها، تعلو الأصوات الحالمة بالعودة إلى السلطة، وكأن البلاد ستنتقل بسلاسة من الخراب إلى البناء دون المرور عبر أهم مرحلة وهي المحاسبة.

فالوطن الذي دُمِّر، والمواطن الذي فقد كل شيء وصار نازحًا أو لاجئًا، لن يقبل أن يُلدغ مرتين، ولن يسمح بإعادة تدوير المجرمين بوجوه جديدة وشعارات براقة.
لقد كانت الحرب قاسية، لكن الأقسى هو تجاهل العدالة تحت ذريعة تشكيل لجان لذر الرماد في العيون. لا يمكن الحديث عن وطن سليم ومعافى دون تصحيح أخطاء الماضي الأسود، وأي محاولة للقفز فوق المحاسبة تعني أن كل التضحيات ستذهب هباءً، وأن مسلسل الانقلابات والعنف سيظل جزءًا من المشهد السياسي للأبد.

المحاسبة يجب أن تطال من صنع العدو، وشرَّع له القوانين، وسلَّحه بالأسلحة الثقيلة، ومنحه المواقع الحربية، ثم عدَّل له القوانين ليتمكن من التحرك ككيان مستقل، وكأن الوطن كان يُهيَّأ ليؤكل حيًا بأسنانه.
العدالة ليست انتقائية، ولا يجب أن تكون شكلية تُبرِّئ أصحاب النفوذ وتعاقب الضعفاء، بل يجب أن تمتد إلى كل من تاجر بهذه الحرب، سواء كانوا سياسيين أو عسكريين أو مليشيات أو نخبًا مدنية برَّرت وساهمت في صناعة الفوضى أو تعاونت معها.

لا إفلات من العقاب، فمبدأ “عدم الإفلات من العقوبة” هو الضامن الوحيد لعدم تكرار هذه الكوارث، وإلا فإن من تسببوا في هذه المآسي سيعودون بأقنعة جديدة، يرفعون شعارات الوطنية بينما أياديهم ملوثة بدماء الأبرياء.
العدالة يجب أن تصل إلى كل من ارتكب جرائم ضد الإنسانية بأبشع صورها، وكأنهم يتغذون بالدم ويرقصون مع الذبح بالتكبير، في مشاهد لم يشهد لها التاريخ مثيلًا منذ نشأة البشرية. إن تجاهل هذه الجرائم الوحشية، أو محاولة طمسها تحت شعارات “عفا الله عما سلف”، ليس سوى دعوة ضمنية لتكرارها مستقبلاً وإضفاء شرعية عليها.

لكن العدالة وحدها لا تكفي، إذ لا يمكن أن يتحقق الاستقرار طالما أن السلاح مشرّع في أيدي الجميع، والمليشيات تعبث بمصير الوطن كيفما تشاء. لذلك، لا بد أن تكون أولى خطوات العدالة هي حل كافة المليشيات دون استثناء، وتجريدها من السلاح، وإعادة بناء جيش مهني قومي، لا ولاء له إلا للوطن، ولا وظيفة له إلا حماية البلاد، وليس حكمها. يجب أن يكون السلاح فقط بيد الدولة، لا بأيدي الجماعات التي تجعل منه وسيلةً لفرض سيطرتها على المجتمع، وتكرّس لعقلية العنف كأداة لحل النزاعات السياسية.
لن يكون هناك سلام حقيقي إذا لم يتم اقتلاع جذور الفساد والمجرمين، وتفكيك كل مظاهر الفوضى المسلحة. لن نسمح بطيّ الصفحة قبل كتابة سطور العدالة بدماء الشهداء، وإلا فإننا نمهد لحرب جديدة قد تكون أشد ضراوة من سابقتها.

تأسيس الوطن بعد الحرب يبدأ بالمحاسبة، ولا يكتمل إلا بحل المليشيات وبناء جيش قومي محترف، وتشكيل حكومة قوية وصارمة من شخصيات وطنية مشهود لها بالكفاءة والنزاهة، تتولى مسؤولية إعادة البناء وتحقيق العدالة، وفقًا لمؤهلاتهم العلمية والخبرات العملية، بعيدًا عن المحاصصة والمجاملات السياسية. عندها فقط، يمكن أن يتحقق التداول السلمي للسلطة.
هذا أو الطوفان الشامل.
اللهم فاشهد، فقد كتبنا بمداد الحقيقة والدماء الطاهرة.