أ/عثمان العاقب يكتب : الأم قبل الزوجة

القوس اونلاين

 

الأم هي المعنى الأسمى للعطاء، مدرسة الحياة الأولى، ونبع الحنان الذي لا يجف. حملت أبناءها في قلبها قبل أن تحملهم في رحمها، وسقتهم الحب قبل أن تسقيهم اللبن، وسهرت الليالي لأجل راحتهم، وضحت بصحتها وسعادتها ليكبروا أقوياء ناجحين. لم تطلب مقابلًا، ولم تشترط عرفانًا، بل أعطت لأنها أم، ولأن الأمومة في جوهرها تضحية بلا حدود.

في حياة كل إنسان، هناك لحظات خالدة تشهد على عظمة الأم: يوم مرض الابن وسهرت بجواره دون أن تغفو، يوم أخطأ ودافعت عنه رغم أنها أول من أدرك خطأه، يوم سقط فحملته بيديها قبل أن يحمل نفسه. مواقفها أكبر من أن تُحصى، وعطاؤها أعظم من أن يُرد، لذا مهما قدمنا لها، سنظل عاجزين عن الوفاء بحقها.

لكن، رغم هذه المكانة العظيمة، نجد في واقعنا سلوكيات تناقض هذه القدسية، وأبرزها تفضيل الزوجة على الأم، ليس فقط في الأولويات، بل في التعامل والاحترام والمكانة. هذه الظاهرة، التي تفشت حتى أصبحت أمرًا مألوفًا، تكشف عن خلل كبير في فهم العلاقات الإنسانية وترتيبها الطبيعي.

الأم ليست مجرد مرحلة تُطوى عندما تأتي الزوجة، وليست منافسًا يحتاج الرجل إلى الحسم بينه وبين شريكة حياته. بل هي الأصل، الجذر الذي امتدت منه كل الفروع، وهي التي جعلت وجود الزوجة والأبناء والعائلة ممكنًا من الأساس. الحب والوفاء للأم لا يتناقض مع بناء حياة زوجية سليمة، إلا عند من فهموا العلاقات خطأ، أو تأثروا بمفاهيم سطحية صورت البر وكأنه تضحية بالاستقرار الأسري، وكأن الإحسان للأم ينتقص من مكانة الزوجة.

في الوطن العزيز ، انتشر في بعض الأغاني الشعبية، خاصة في “غناء البنات”، عبارات تعكس هذا التوجه القبيح، مثل قولهن: “العجوز القاعدة برا، قاعدة للمضرة، يا نكير أديها طلة”. هذه الكلمات ليست مجرد لحن يُردد، بل هي انعكاس لذهنية تتعامل مع الأم وكأنها عبء، وكأن وجودها في حياة الابن بعد الزواج أمر غير مرغوب فيه. كيف لمن حملت وربت وسهرت وضحت، أن تتحول إلى شخص زائد على الحياة، أو إلى مشكلة تحتاج إلى حل؟

ليس ذلك فحسب، بل لدينا مثل سوداني يقول للأم: “ربي يا خايبة للغايبة”، وهو تعبير جارح يعكس نظرة مجحفة للأم التي تربي أبناءها لتجدهم في النهاية يهملونها عندما يكبرون ويبتعدون عنها. هذا المثل وإن كان يُقال بسخرية، إلا أنه يعبر عن واقع مؤلم تعيشه كثير من الأمهات اللاتي قدمن كل شيء لأبنائهن، ليجدن أنفسهن منسيات عند أولويات الزواج والحياة الأسرية.

إن بناء علاقة متوازنة بين الأم والزوجة ليس خيارًا، بل واجب أخلاقي وإنساني. الزوجة شريكة الحياة، والأم هي من أعطت هذه الحياة معناها. ومن لم يكن بارًا بأمه، فلن يكون وفيًا لأي أحد، لا لزوجة ولا لأبناء ولا حتى لوطنه. فكما يُقال: من لا خير فيه لأمه، لا يُرجى منه خير لغيرها.

إن المجتمع الذي يسمح بتهميش الأمهات وإهمالهن، هو مجتمع يزرع القسوة في أبنائه، ويفقد مع الزمن روحه الدافئة التي تقوم على الحب والاحترام والبر. وليس أعدل من ميزان القرآن الكريم حين قال: “وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا”، ليكون ذلك هو الأصل، وليبقى البر بالأم فضيلة لا تسبقها أي علاقة أخرى، مهما كانت عظيمة.