محمد عباس صالح المنشاوي يكتب : “قبل أن تُغادر القماري.. هل نُدرك الخطر؟”

القوس اونلاين

 

حين كتب الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”، لم يكن يعلم أن يومًا سيأتي، يُقال فيه: لم يعد للشمال موسم للهجرة.
ولم تكن دومة ود حامد، ولا دكان عبد الحفيظ، ولا الزين بصياحه المجنون، مجرد شخصيات روائية؛ بل كانوا مرآة لوطن، لناسٍ طيبين، لحياةٍ نابضة بالحُلم والبساطة.

لكننا اليوم، أمام نذرٍ ثقيلة تتلبّد في الأفق.
لم تُغادر القماري بعد، لكنها تتهيأ للطيران.
لم يُغلق دكان عبد الحفيظ، لكنه صار موحشًا، لا صوت فيه إلا صدى الخوف.
لم نسمع صياح الزين، ربما لأنه ما زال يختبئ خلف الجدران، أو لأن قلبه صار يتوجّس من الوجع القادم.
ود حامد ما زالت واقفة، لكن دومتها العتيقة تُصارع الريح وحدها.

نعم، لم يقع الخراب بعد، لكنه يقترب كلما سكتنا.
كلما استسلمنا لضجيج السلاح، وخنقنا أصوات الغناء، وخبّأنا الزغرودة خوفًا من أن تتحول إلى صرخة.
لم تصبح المسيرات والمضادات هي المشهد اليومي بعد، لكن نذيرها يطرق الأبواب، ويهدد ما تبقى من ريفنا الجميل.

بت صبير ما زالت هناك، تغني بصوتٍ مرتجف. إن سكتت، فسيسكت معها التاريخ، وسيغيب الجمال.
علينا أن نسمعها قبل أن يفزعها الرصاص حقًا.

يا أهل الشمال، يا من كانت ضحكاتكم تعلو فوق صوت المذياع مساء، يا من كنتم تقيمون الأعراس تحت القمري والطلح، لا تسمحوا للخراب أن يسكن دياركم.
هذا التحذير لا يكتبه الحزن، بل يكتبه الحنين والخوف.
فمن رأى النذر، عليه أن يُطلق الصوت قبل أن يفوت الأوان.

فهل نمنع القماري من الرحيل؟
هل نُبقي الزين حيًا في صياحه؟
هل نزرع الطلح من جديد ونحرس دومة ود حامد؟
أم ننتظر أن تصير الرواية واقعًا.. وتغدو الزغاريد رصاصًا؟