التجرد للخير والشر “النفس البشرية بين نداء النور وجاذبية الظلام”

كتب : د/ بهاءالدين ماهر
النفس البشرية كيان متفرد ، تقف على مفترق طريقين ؛ طريق الخير وطريق الشر ، وبينهما تصطرع الإرادات وتتماوج الرغبات.
فإن هي سمت إلى الخير محضاً ، سمت وارتقت لتصل إلى أسمى مراتب الإنسانية ، وإن جُنحت إلى الشر ، تدنت إلى هاوية الظلام.
وإن السعي المجرد نحو الخير الخالص هو درب ملائكي ، ومسيرة جليلة لا تعرف الكلل ولا تكلّف اليأس ، إنَّه جهد دؤوب ينبع من نقاء الروح ، فلا ينثني أمام الصعاب ولا يتراجع مهما طال الطريق ، فالملائكة كائنات خُلقت للخير المطلق ، خالية من نوازع الذات والهوى ، في طاعة خالصة وعبادة نقية ، لا يطالها الفتور أو الحياد.
فـ [ المقربون ] من الملائكة لا ذنب لهم ليتوبوا عنه ، ولا إغراءات تُبعدهم عن الحق ، بل هم دائماً في امتثال مطلق لإرادة اللّٰه ، فيفيضون نوراً وصفاء.
وبينما يقف الشياطين على النقيض تماماً ، إذ يتجسدون في الشر الخالص ، ينغمسون فيه بالكامل دون أدنى تردد أو تراجع.
فالشيطان لا يعرف طريقاً للخير ولا درباً للفضيلة ، بل يسعى للإفساد وإبعاد الناس عن الحق ، إذ يُجسد التجرد للشر سمة الشيطان وسجيته.
يعيش الشيطان في عزلة دائمة عن الخير ، بعيداً عن الرحمة والنور ، يتخذ الظلمات مأوى ، ويعمل فيها على الإغواء والتضليل.
أما البشر ، فيقعون بين هذين الطرفين ؛ فعلى الرغم من وجود نوازع الخير والشر داخلهم ، إلا أنَّ لهم الخيار في اتخاذ طريق واحد أو العودة عنه.
فإن ضلّوا ، كان لهم أن يعودوا ، وإن وقعوا في الشر ، استطاعوا الرجوع إلى الخير ؛ لأنَّ هذا جزء من طبيعتهم البشرية.
هنا تتجلى خصوصية البشر وعلو قدرهم ، إذ خُلقوا بعقل وإرادة تتيح لهم العودة عن أخطائهم ، والتوبة عن زلاتهم ، فيصبحون أقرب إلى الخير. وإن كبوا أو تعثروا ، فإنَّ عودتهم تغدو محمودة ، فهم يمتازون بإمكان التعلم من أخطائهم وتصحيح زلاتهم ، مما يُكسبهم تجربة وثباتاً وارتقاءً بأرواحهم.
إذن ، التجرّد للخير يقرب بني آدم من مرتبة الملائكة ، ويبعث في أنفسهم نور الصفاء والطمأنينة ، ليغدوا أرواحاً مضيئة تضيء دروب الآخرين.
وأما التجرّد للشر ، فهو انزلاق إلى عالم الظلام واستسلام لدوافع الشر ومكائد النفس ، والعياذ باللّٰه.
فإنَّ الخير والشر متداخلان في تكوين بني آدم ، متمازجان كالعجين ، ولا يُفصل أحدهما عن الآخر إلا بنار التوبة والندم ، أو بنار جهنم يوم لا ينفع ندم ، ويقول مولانا الإمام الشيخ محمد الشيخ إبراهيم الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني رضي اللّٰه عنه في خطابه عام 2021 م : ( إنَّ التجرُّدُ لمحض الخير دأب الملائكة المقربين ، وأما التٌّجرُّدُ للشَّر سجيةُ الشياطين ، والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر ضرورة الآدميين ، فالمتجرد للخير مَلك مقرب ، والمتجردُ للشر شيطان مُبعد ، أما الإنسان فَمُتلافي للشر بالرجوع إلى الخير ، فقد ازدوج في طينة الإنسان شائبتان ، واصطحب فيه سجيتان ، وكل عبد مُصحِّح نسبه ، إمَّا إلى الملك أو إلى آدم أو إلى الشيطان.
فإنَّ الشر معجون مع الخير في طينة آدم ، عجناً محكماً لا يخلصه إلا إحدى النارين ، نار النَّدم أو نار جهنم.
وإليك إختيار اهون النَّارَين ، والمبادرة إلى أخفَّ الشَّرَّين ، قبل أن يطوى بساط الإختيار ، ويُساق إلى دار الإضطرار
إمَّا إلى الجنة وإمَّا إلى النار.
يقول سيدي فخر الدين رضي اللّٰه عنه :
عَفَا اللَّهُ عَمَّنْ عَادَ لِلرَّكْبِ نَادِمًا
عَفَا اللَّهُ عَمَّنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ زَلَّةِ
وعن تصحيح النسب قال رضي اللّٰه عنه :
يُؤْتَى الْفَتَى فِي صُحْبَتِي
نَسَبًا صَحِيحًا مُسْنَدَا )..