نبض القلوب ؛ نور الذكر في رحلة القرب من اللّٰه

كتب : د/ بهاءالدين ماهر
الذكر هو شرف الولاية وأعلى مراتب القرب ، وعنوان الاصطفاء الرباني ، ورسالة محبة إلهية ، تتجلى فيها نعمة اللّٰه على عبده.
فهو كما وصفه أهل اللّٰه وأرباب القلوب النقية [ منشور الولاية ] ، ذلك الأمر السماوي الذي يمنحه الحق جلَّ وعلا لمن اختاره من عباده ، فيرتقي به العبد ، ويعانق به شرف القرب ، ويُتوج بمقام الولاية والمحبة الإلهية.
والذكر ليس مجرد كلمات تنساب على الألسنة ، أو عبارات تتردد في المجالس ؛ بل هو نور يشع في أعماق القلب ، وسر يتجلى في صفاء الروح ، هو قارب العاشقين إلى ساحات الجمال ، ونسمة من جلالٍ إلهي تلامس الروح ، فتطهرها من شوائب الدنيا ، وترتقي بها إلى سماء الكمالات.
وقد قال سيدي الإمام عبد الوهاب الشعراني رضي اللّٰه عنه : ( عمدة الطريق الإكثار من ذكر اللّٰه عزَّ وجلَّ ) ؛ وهنا تتبدى حكمة السالكين في السير إلى اللّٰه ، الذين وجدوا في الذكر روحاً تنبض بالحياة وسراً يتدفق في أعماقهم ، فيمدهم بفيض من النور لا ينقطع ، ويملأ قلوبهم يقيناً لا يخبو ، فالذكر عندهم ليس مجرد كلمات ترددها الألسنة ، بل حياة تتغذى بها الأرواح ، وحبلاً متيناً يشدهم إلى ربهم ، ينير دربهم ، ويضفي على سعيهم قدسية لا تضاهي.
وحين يذكر السالك ربه بصدق وإخلاص ، كأنما يُفسح له في ساحة الملكوت ، ويُهيَّأ له مجلس قرب تتسربل فيه روحه بنور العرش ، يستمد من أنواره بفيض مستمر ، فيصير ذكر اللّٰه له نبضاً يلازمه في كل حين ، يهمس به قلبه كما يتنفس صدراً بغير انقطاع ، حتى يغدو الذكر حياة متجددة لا ينفصل عنها ولا يُستغنى عنها لحظة.
ويأتي تأثيره في القلب كغيث نازل من السحاب ، يغسل ما علق فيه من غبار الدنيا ، ويعيد الحياة لما ذبل من مشاعر الشوق إلى اللّٰه ، فيوقظ الوجدان المتعطش للقرب ، ويملأ الروح بحنين طاهر يتسامى شوقاً إلى اللقاء الإلهي ؛ ويقول مولانا الإمام الشيخ محمد الشيخ إبراهيم الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني رضي اللّٰه عنه في خطابه عام 2015 : ( ولقد اتخذ المتصوفون من الذكر بالاسم المفرد حرفة لهم ، لتتزكى سموات أرواحهم وتتطهر أرضية أجسادهم ، كما أخبر البارى تبارك وتعالى فى قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } ، وقال { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ۞ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } ، وعن سيدنا أبي هريرة رضي اللّٰه عنه قال قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم : ﴿ سَبَقَ الْمُفَرِّدُون ﴾ ).
وبالمقابل نجد أنَّ من يُحرم من فيض الذكر الإلهي ويغيب عن قلبه نور اللّٰه ، كأنما يُقصى عن مقام رفيع تترسخ فيه الروح وتنسكب عليه من أسرار الحياة ، فيبدو كمن قُطعت عنه سبل الحياة ، فلا يبقى في كيانه من النور شيء ، بل يغدو تائهاً في ظلام الغفلة ، يعيش حياة خاوية لا روح فيها ، تائهة بلا هدى ، يغلفها صمت موحش لا يصله بذكر اللّٰه وملاذ الاطمئنان.
فكيف لمحبٍ صادق أن ينغمس في لحظة غفلة عن ذكر اللّٰه ، وهو يعلم يقيناً أنَّ الذكر هو سِمة المقربين ، وراية العارفين ، وسر السبل التي تقود إلى المقام الرفيع عند اللّٰه العلي العظيم..