جذور الأزمة (1)

كتب : أ/ محمد عثمان الأمين

الحرب الدائرة الآن في بلادنا لها اسباب عميقة ومتجذرة وحريُُ بنا أن نحاول (كل حسب جهده) وضع ايدينا علي الجرح لمعرفة موضع الألم ولاستكشاف تلك الاسباب ومن ثم الاجتهاد في وضع العلاج المستدام لكي نجنب بلادنا تكرار الحروب في المستقبل….وأنا هنا احاول الاجتهاد لسبر غور جذور الأزمة السودانية المزمنة التي عانى ومازال يعاني منها شعبنا منذ الاستقلال .

هناك سؤال طالما ظل يتردد في اذهان كل الاجيال المهتمة بالشأن السياسي وهو
لماذا تفشل النخب السياسية دائمًا في ايجاد معادلة للحكم تحقق رغبات شعبنا في العيش الكريم ؟ بالرغم من توفر أدوات الحكم وامتلاك السودان للثروات الهائلة الرابضة في باطن الأرض وتلك المتدفقة على سطحها؟
لو أننا تتبعنا مسار تاريخنا السياسي منذ نيل الإستقلال نجد أنه طريق متعرج ومليء بالمطبات ودائمًا يقود إلى السكة الخطأ لأنه لا يحقق الحد الادني من مطلوبات تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي بسبب فشل الطبقة السياسية الحاكمة في إدارة الدولة وأنا أعزي ذلك الفشل لسببين:-

السبب الأول تنوعنا الحاد الذي باعد بيننا كثيرا والذي تغذى طيلة عمرنا السياسي والاجتماعي بالخلافات الحادة بسبب العنصر والدين والثقافة وسيطر هذا التباعد علي عقلنا الجمعي حتي أصبحنا نعيش وجدانيًا في جذر معزولة عن بعضنا البعض …. وأيضا طغى الخلاف الديني في الفكر والخطاب فأصبح الدين عامل تنافر على عكس هدفه وجوهره الأساسي وهو جعل الناس أمة واحدة ….لذلك أصبح أكبر سبب من أسباب تباعدنا الوجداني هو نشر خطاب الكراهية الذي يتغذى علي التعنصر الإثني والقبلية والمناطقية وهي جميعا تنطلق من أسباب ثقافية تميز كل مجموعة سودانية عن بعضها البعض ولكنها بالمجموع عامل تفرقة واختلاف حاد قاد إلى حروب أهلية وسيقودنا إلى حروب أخرى ، بالرغم من أن هذا التنوع يمكن أن يكون مصدر ثراء وغنى في حالة حسن إداردته وتشريع القوانين التي تحفظ حقوق الآخرين في ظل حكم فدرالي يستمد أسسه من دولة المواطنة القائمة علي حسن إدارة التنوع.

السبب الآخر لتخلفنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي هو عدم إسكتمال حداثتنا فالدولة السودانية لم ترى الحداثة إلا بعد الاستعمار الذي حاول إدخال الطرق الحديثة في التعامل مع الحياة وأدخل التعليم الحديث ليحل محل الخلاوي وأنشأ المؤسسات الحديثة مثل الدواوين الحكومية والشركات والمشاريع الزراعية التي تمارس الاقتصاد برؤية حديثة لتحل محل الاقتصاد التقليدي وحتي السجون كمؤسسة حديثة تعمل علي إصلاح الافراد الجانحين في المجتمع ، ولكن مع الأسف طغت العقلية التقليدية بعد ذهاب الاستعمار من جديد وعادت القبلية مقابل مؤسسات المجتمع المدني والأسرة الممتدة مقابل الأسرة النووية وتلونت الحياة باللون الرمادي حينها حدث لنا ارتداد من الحداثة إلى التقليدية واستقرت الأوضاع في الوسط وظل يحكمنا وضع شاذ فلا نحن ننتمي إلى الدولة المدنية الحديثة ولا إلى الدولة التقليدية القديمة.

وكانت من أهم شعارات وأهداف ثورة ديسمبر المجيدة هو تطبيق نظام الحكم المدني الحديث تحت ظلال الحرية والسلام والعدالة لإحياء نموذج الدولة الحديثة ولكن مع الأسف لم تستمر تجربة الدولة المدنية الحديثة في السودان للأسباب المذكورة آنفًا .

ختامًا أرى أن السودان أصبح دولة مترهلة يعج بالمشكلات القبلية والاثنية ولم يستطع أن يحدد هويته بعد ولم يستكمل حداثته ، لذلك فشلت تجربة الحكم المدني الديمقراطي بسبب تسيد العقليات القائمة على مبدأ العنصرية و القبلية والمناطقية إضافة إلى مقاومة تلك العقليات لأسس توطين الدولة المدنية الحديثة .